أربعون عامًا من المعاناة .. استكشاف صراع الهوية في “سفينة إسماعيل” لـ”علي لفتة”

يمنات
محمد المخلافي
“أربعون سنة عجافًا أكلنا كل بقراتي السمان”، بهذه العبارة استهل قراءتي لرواية “سفينة إسماعيل” للكاتب والأديب العراقي علي لفتة سعيد. تعكس هذه العبارة بوضوح معاناة بطل الرواية، الذي عانى طويلاً من الفقد والهروب، حيث تتجلى في كلماته معاني المعاناة الإنسانية التي يواجهها الفرد في صراعه مع قسوة الحياة.
تتناول الرواية رحلة شاقة عبر الزمن، حيث يجسد الكاتب الصراع الداخلي لبطل الرواية الممزق بين ذكرياته الأليمة ورغبته في التحرر من القيود التي تفرضها عليه الظروف القاسية.
تتألف الرواية من 171 صفحة، صدرت عن دار الفؤاد للنشر والتوزيع في القاهرة، عام 2023. تحتوي على فصلين، يتضمن الفصل الأول تسع فقرات، بينما يحتوي الفصل الثاني على ست فقرات. إن تنسيق الفصول بهذا الشكل يساهم في إبراز تدرج الأحداث وتطور الشخصيات، مما يجعل القارئ يعيش تجربة الرواية بشكل أكثر عمقًا.
الصراع الداخلي لإسماعيل
يتضمن الفصل الأول تصويرًا دقيقًا لحالة إسماعيل النفسية والاجتماعية، حيث يعكس الكاتب من خلاله الصراعات الداخلية التي يعاني منها بطل الرواية. في البداية، يُظهر إسماعيل إحساسًا بالتشويش والقلق، مما يجعله يشعر كأنه فريسة للقدر الذي ينصبه له الزمن. هذا التوتر يتجلى في تجربته في دائرة التقاعد، حيث يتواجد بين مجموعة من الأشخاص الذين يمثلون الأجيال السابقة، محنيي الظهر، والذين يحملون معهم أثقال الزمن. إن مشهد الانتظار في هذا المكان يجسد شعورًا عامًا بالإحباط، حيث يتبدى كل شخص كأنه يحارب معركة خاسرة مع الحياة.
تتداخل الذكريات مع لحظات الحاضر، حيث تستحضر رائحة المسك التي يشمها إسماعيل لحظات من طفولته وشبابه، مما يخلق لقطات مؤثرة من الماضي. هذه الرائحة، التي تترافق مع تعابير الفرح والحزن، تعكس الصراع بين الأمل واليأس، وتُظهر كيف يمكن للذكريات أن تكون سلاحًا ذا حدين. تعيد إسماعيل إلى لحظات كان فيها أكثر حيوية، لكنها أيضًا تذكره بما فقده مع مرور السنين، مما يعمق شعوره بالنقص والحنين.
يستعرض الكاتب أيضًا التفاعل بين الشخصيات في هذا الفصل، مما يبرز التوترات الاجتماعية والسياسية التي تعكس واقع المجتمع العراقي. إن انتظار المراجعين لإنجاز معاملاتهم في جو خانق من الإحباط يُظهر كيف أن الحياة اليومية تُثقل كاهل الجميع. يتجلى الصراع بين الأجيال من خلال تباين تطلعات إسماعيل مع تلك التي يحملها الآخرون، مما يُعزز المفهوم العام للانفصال والاغتراب.
بشكل عام، يُعتبر الفصل الأول بمثابة تمهيد قوي للرواية، حيث ينجح الكاتب في تقديم شخصية إسماعيل كبطل معقد، يواجه تحديات وجودية تتجاوز حدود الزمن والمكان. هذه التحديات تجعل القارئ يتفاعل مع العمق الإنساني في الرواية، مما يُشعره بأن معاناة إسماعيل هي معاناة كل إنسان يبحث عن معنى في عالم مليء بالألم. إن هذا الفصل يمهد الطريق لاستكشاف تفاصيل حياة إسماعيل، ليصبح مثالًا للصراع الإنساني في زمن التغيرات المأساوية.
التشتت والبحث عن الهوية
أما الفصل الثاني، فتتجلى فيه الصراعات الداخلية لبطل الرواية بشكل عميق، حيث يعيش تحت وطأة ذكريات مؤلمة وأحداث متشابكة تسلط الضوء على لحظات الأمل التي غمرته. إذ يعبر عن تلك التجربة النادرة التي كانت “بمثابة نفخ الروح في طين عقلي، فأحاله إلى منطقة من العشب الأخضر” (ص 151). تعكس هذه العبارة قدرة التجارب الجميلة على إحداث تحول داخلي، حتى وإن كانت عابرة، مما يبرز أهمية تلك اللحظات في مواجهة ظلام الحياة. ومع ذلك، يعاني بطل الرواية من حالة تشتت عميق، حيث تتجلى مشاعر الهروب من “الفشل والحرب” (ص 151) كجزء من محاولته للتخلص من الضغوط الاجتماعية والنفسية التي تثقل كاهله. يتضح من خلال تأملاته أنه يسعى للابتعاد عن كل ما يربطه بماضيه، مما يعكس شعورًا قويًا بالقلق والانفصال عن جذوره.
الأهم من ذلك، تحول الليل عنده إلى صراخ بصورة صامتة لا يفارقني إلا ساعات النوم أو ساعات القراءة (ص 153)، مما يعكس شعورًا عميقًا بالاغتراب والقلق. يتحدث الكاتب عن الليل كوقت للصراخ الصامت، مما يدل على الصراع الداخلي الذي يواجهه. استخدامه لساعات النوم والقراءة كفترات للهروب من هذا الصراخ يشير إلى أهمية هذه اللحظات كملاذ من الواقع المؤلم، والإشارة إلى الزوجة والأولاد توضح الصراع بين الالتزامات العائلية والرغبات الشخصية، مما يعكس حالة من التشتت الذهني والرغبة في الهروب من الضغوط الاجتماعية.
في سياق آخر، أقف مشدوهًا أمام ما تبقى من خان العطيشي، حيث تصورت أن الحكومة المحلية ستهتم به كونه شهد، كما قيل، أحد اجتماعات ثورة العشرين بين رجال الدين والمعارضين للاحتلال الإنجليزي، لكنه صار عبارة عن مكب نفايات (ص 154). يتناول التحول الذي طرأ على خان العطيشي، الذي كان رمزًا تاريخيًا وثقافيًا، وتحوله إلى مكب نفايات، مما يوضح الإهمال واللامبالاة التي تعاني منها المواقع التاريخية. يعبر الكاتب عن خيبة الأمل من عدم اهتمام الحكومة المحلية بالحفاظ على هذا الإرث، وهذه الصورة تعكس أيضًا التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي تؤدي إلى تدهور الهوية الثقافية، مما يبرز الصراع بين الماضي والمستقبل.
الإبداع السردي في تصوير الواقع العراقي
علي لفتة، كعادته، يتميز بلغة أدبية غنية وعبارات معبرة تعكس عمق التجربة الإنسانية التي يسعى لتصويرها. يستخدم أسلوبًا سرديًا يجمع بين الوصف الدقيق والتأمل النفسي، مما يسمح للقارئ بالانغماس في عوالم شخصياته.
تؤثر البيئة المحيطة بكاتب الرواية بشكل عميق على كتابته. فهو ينتمي إلى المجتمع العراقي الذي يعاني من الأزمات والضغوط المتزايدة، مما يجعله يتناول مواضيع الفقد والحنين والهروب في رواياته. تتجلى هذه البيئة القاسية في تصوير الحياة اليومية، حيث يعيش الأفراد تحت وطأة التوترات الاجتماعية والسياسية، مما يثقل كاهلهم ويزيد من شعورهم بالاغتراب.
تشكل العوامل الخارجية، مثل الظروف الاجتماعية والسياسية المتقلبة، دافعًا قويًا للكاتب للتطرق إلى هذه المواضيع في روايته. إذ يعكس صراع الشخصيات مع واقعهم المرير، ويستعرض كيف تؤثر هذه الظروف على الهوية الفردية والجماعية. من خلال هذه الرواية، يسعى علي لفتة إلى تقديم رؤية إنسانية عميقة تعبر عن التحديات التي تواجه الأفراد في سعيهم لتحقيق الذات والمعنى في عالم مليء بالألم.
لماذا سميت الرواية بسفينة إسماعيل؟
تأتي تسمية الرواية “سفينة إسماعيل” لتجسد التحول العميق الذي شهدته مكتبة بطل الرواية المتواضعة، حيث تعكس هذه التسمية مسارًا من الإبداع والجهد. فقد استطاع إسماعيل أن يشكل رفوف مكتبة صغيرة من سعف النخيل وبقايا خشب صناديق الفواكه، ليحول ما هو عادي إلى شيء استثنائي.
مع مرور الزمن، ومع تزايد عدد الكتب التي احتضنتها تلك الرفوف، بدأت تتثاقل، مما منحها هيئة تشبه السفينة، وكأنها تحمل في أحشائها عوالم من المعرفة تنتظر من يكتشفها. هذه الصورة الرمزية لا تعكس فقط الازدحام المادي للكتب، بل تعبر أيضًا عن رحلة البطل ذاته، الذي يسعى لاستكشاف عوالم جديدة من الفكر والثقافة.
إن المكتبة، بذلك، تصبح رمزًا للبحث عن المعنى والبحث الدائم عن المعرفة، مما يجعلها ليست مجرد مكان لتخزين الكتب، بل سفينة تحمل الأحلام والطموحات.
في ختام هذه الرحلة الأدبية مع رواية “سفينة إسماعيل”، نكتشف عمق العمل الذي يتجاوز السرد التقليدي ليغوص في أعماق النفس البشرية. تجسد شخصية إسماعيل معاناة الفرد في مواجهة قسوة الحياة،
وتعكس الصراع المستمر بين الأمل واليأس. التسمية “سفينة إسماعيل” تعبر عن التحول والبحث الدائم عن المعرفة، حيث تصبح المكتبة رمزًا للإبداع والجهد في عالم مليء بالتحديات.
تقدم الرواية دعوة للتأمل في الهوية الإنسانية وتحثنا على استكشاف العوالم المخفية داخلنا. إن تأثيرها يتجاوز صفحاتها، حيث تترك في الأذهان بصمة تدفعنا للتفكير في معاناة كل فرد يسعى لتحقيق الذات والبحث عن المعنى.
في النهاية، تُعد “سفينة إسماعيل” كنزًا من الأفكار التي تُثري تجربتنا الإنسانية، وتدعونا جميعًا للغوص في أعماق تفكيرنا ومشاعرنا.
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليغرام انقر هنا
للاشتراك في قناة موقع يمنات على الواتساب انقر هنا